مقدمة

حظيت كتابات ابن خلدون (732هـ/1334م ـ 808هـ/1406م) باهتمام واسع، سواء من قبل المستشرقين أو من طرف الباحثين العرب والمسلمين، منذ أواخر القرن التاسع عشر، الأمر الذي أدى إلى تراكم أدب خلدوني ضخم، يشكّل عقبة يصطدم بها كل حديث عن صاحب المقدمة.وإذا كانت بعض هذه الدراسات الخلدونية قد جانبت المنهج العلمي، لكونها لم تؤطر كتابات ابن خلدون بعصرها، وعملت على مواخذته، لأنه لا يساير كل المناهج والتخصّصات الحديثة والمعاصرة[1]، فإن هذه الدراسة وضعت كهدف أساسي لها البحث في ثنايا الفكر التاريخي الخلدوني عن القضايا المنهجية والمعطيات المعرفية التي قد تفيد في توجيه الباحث في الديمغرافيا التاريخية لبلاد المغرب الوسيط (المغرب الأقصى والأوسط وأفريقيا)، أو قد يستعملها كمادة أولية في عمله. من هنا نجزئ إشكالية الموضوع إلى التساؤلات التالية لنجيب عنها في الفقرات التالية:1 ـ كيف نشأت الديمغرافيا التاريخية؟ ما هو موضوعها؟ وما هي مصادر مادتها المعرفية؟2 ـ ما هي الكتابات التاريخية لابن خلدون التي تشكل ما سمَّيناه «الاستغرافيا الخلدونية»؟3 ـ ما مدى حضور الديمغرافيا التاريخية للمغرب الوسيط في جوانبها المنهجية والمفاهيمية والمعرفية في كتابات ابن خلدون التاريخية؟ وإلى أي حدّ يمكن للباحث في هذا الحقل المعرفي الاستفادة منها في عمله منهجياً ومصدرياً؟

أولاً: الديمغرافيا التاريخية: نشأتها، وموضوعها، ومصادرها

1 ـ نشأة الديمغرافيا التاريخية وموضوعهاظهرت الديمغرافيا التاريخية أو علم السكان التاريخي كفرع جديد من الديمغرافيا في أوروبا الغربية في بداية الستينيات من القرن العشرين، كامتداد طبيعي للديمغرافيا، وذلك عندما بدأت سلسلة من الدراسات الديمغرافية تستمد مادة اشتغالها من ماضي الساكنة التي تدرسها[2]، وقد انحصر انشغالها، ليس فقط في معرفة الخطوط العريضة للتطور الديمغرافي لمجموعة بشرية معيّنة، بل أيضاً في رسم تاريخ التطور الصحّي لهذه الساكنة، بما في ذلك الأوبئة والأمراض، ودراسة الأزمات والهجرات المحلية والدولية[3]، وذلك بتطبيق مناهج التحليل الإحصائي والرياضي في دراسة حجم وتركيب الساكنة البشرية وتوزيعها المجالي، وتتبّع تغيّراتها على مستوى الخصوبة والوفيات والزواجية والهجرة.ويرى أحد أقطاب مدرسة الحوليات التاريخية الفرنسية أن الديمغرافيا التاريخية ظهرت في إطار انفتاح التاريخ على مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية والبحث عن علوم مساعدة للتاريخ، ومن ثم أصبح المؤرخ عالم اقتصاد وسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا وسيكولوجيا، وعالم لسانيات وديمغرافيا، الأمر الذي أدى إلى نشأة تاريخ اقتصادي، وجغرافيا تاريخية، وديمغرافيا تاريخية، وتاريخ اجتماعي[4].يتبيّن من الإشارات المتقدمة أن الديمغرافيا التاريخية تتقاطع مع الديمغرافيا من حيث المنهج والموضوع. فهي تنقل المنهج الديمغرافي، وتحاول تطبيقه في دراسة التاريخ الديمغرافي لساكنة معيّنة، وموضوعها هو موضوع الديمغرافيا، أي السكان، إلا أن الاختلاف الأساسي بين التخصّصيْن، هو كون الديمغرافيا التاريخية تدرس الخصائص الديمغرافية للسكان في الماضي، ومن هنا تختلف مصادرها وتقنياتها ومناهجها بالضرورة عن مثيلاتها في الدراسة الديمغرافية العادية، مع حضور مناهج التقدير الكمّي في كل منهما.فضلاً عن المواضيع الديمغرافية العادية التي تدرسها الديمغرافيا، كالوفيات والخصوبة والزواجية والهجرات السكانية، التي تدرسها الديمغرافيا التاريخية في سياق تاريخي، فإن الأزمات الديمغرافية المتصلة بالحروب والأوبئة والمجاعات قد استأثرت باهتمام الباحثين في حقل التاريخ الديمغرافي.2 ـ مصادر المعرفة في الديمغرافيا التاريخيةتعتبر الحالة المدنية والإحصاءات السكانية مصدريْن أساسييْن للمعطيات الخامة التي تعالجها الديمغرافيا لتستخلص منها نتائجها، ومن ثم فقد اعتبرهما جاك فالين ـ أحد الديمغرافيين الأوائل ـ بمثابة ثديي رضاعة بالنسبة إلى هذا التخصّص[5]. إن سجلات الحالة المدنية والإحصاءات السكانية، وتقدم الرياضيات وحساب الاحتمالات، كانت عوامل منحت للديمغرافيا الوسائل الضرورية للملاحظة الدقيقة والصحيحة، الأمر الذي سمح لها بوضع نظرية علمية، غير أن تأخر ظهور هذا العلم يرتبط في الوقت ذاته، بتأخر ظهور تلك العوامل[6].لا يتوفر مؤرخ الديمغرافيا التاريخية في بلدان أوروبا الغربية عامة على مصادر موثوقة ودقيقة إلا استثناءً، حتى بالنسبة إلى القرن التاسع عشر، والإحصاءات والمعطيات التي تخصّ الحركة الديمغرافية للسكان غير كاملة، ويحتاج إلى تعديلها قبل الاستعمال، فيضطر إلى اعتماد مصادر «خارجية»، لم يتم إعدادها لأهداف علمية، كالسجلات الكنسية التي كانت تدوّن فيها الخوريات منذ القرن السادس عشر مراسيم التعميد والزواج والدفن، وكذا السجلات الضريبية والعقود المختلفة. وفي ما يتعلق بالديمغرافيا القديمة (Paléodémographie)، أي ديمغرافية الشعوب الغابرة غير المتوفرة على وثائق مكتوبة، تصبح الديمغرافيا التاريخية مجبرة على الاشتغال على العظام والمخلفات البشرية[7].وقد أشار المهتمون بتاريخ السكان من مؤرخين وديمغرافيين إلى أن التسجيل المنتظم والمنظّم للوقائع الديمغرافية في أوروبا يعود إلى الأمس القريب فقط، ليس قبل القرن الثامن عشر، الأمر الذي أدى إلى الحديث عن عصر ما قبل إحصائي وآخر إحصائي. وهذا العصر الإحصائي، اختلفت بداياته بين البلدان والقارات: فإذا كانت بعض أقطار أوروبا قد عرفت الإحصاءات السكانية منذ أواخر القرن الثامن عشر، فإن بعض أقطار آسيا وأفريقيا لم تشهد إحصاءاتها الأولى إلا مع نهاية القرن التاسع عشر أو خلال القرن العشرين، ولم تتجاوز في العديد منها مستوى التعدادات التقريبية[8].وقبل ظهور الإحصاءات السكانية المعاصرة، شهدت معظم الحضارات عمليات التعداد، وبذلك تضرب هذه التعدادات بجذورها في التاريخ. ويبدو أن أولى العمليات التعدادية المعروفة تعود إلى الحضارة السومرية خلال الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد، التي كانت تمتد على رقعة جغرافية واسعة من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط. وهو ما تدل عليه بقايا الألواح المنقوشة. وفي حوالى 2750 ق.م. قام المصريون القدامى بعمليات تعدادية لأغراض جبائية. ويمكن العثور على آثار لعمليات مماثلة في الصين منذ عام 2238 ق.م. وفي الإمبراطورية الرومانية، كان من واجب الأشخاص الذين هم موضوع العملية الإحصائية، التقدم إلى سلطات المنطقة الأصلية لإحصاء أنفسهم، وذلك منذ القرن السادس ق.م.[9].وفي الدولة الإسلامية، يمكن اعتبار نشأة الدواوين وتنظيمها وتحديد اختصاصاتها منذ فجر الإسلام، إرهاصات مبكرة لظهور التعدادات. فقد كان الديوان يحفظ ما يتعلق بحقوق الدولة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال. ولقد وجد الديوان منذ عهد الرسول (ﷺ) من دون أن يتسمّى بهذه التسمية، وبلغ عدد كتّابه نيفاً وثلاثين كاتباً في رواية القلقشندي، أو أكثر من اثنين وأربعين في رواية الطبري[10]. وعندما عزم عمر بن الخطاب على فرض العطاء لمستحقيه، فإنه أمر بإحصاء الناس لكي يتمكّن من توزيع الأموال الفائضة في بيت المال، فبدأوا بقرابة الرسول (ﷺ)، ثم الأقرب فالأقرب منه[11]. وفي عهد معاوية بن أبي سفيان كان في الكوفة والبصرة ديوانان، أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأعطياتهم، وقد أنشأه عمر بن الخطاب، والآخر لوجوه الأموال بالفارسية[12].لم يهتم المسلمون، سواء في المشرق الإسلامي أو الغرب الإسلامي، بضبط تواريخ الأحداث السكانية وكرونولوجيتها، إذ لم يكن الوعي بتدوين المعطيات السكانية لذاتها أو لأغراض إحصائية حاضراً لديهم، وإنما كان يتم تسجيل ما يتعلق منها بالزيجات والولادات والوفيات والأنساب، عند الحاجة إليها في مجالات اجتماعية وعلمية غير ميدان السكان، كدراسة عدالة الرواة، ومعرفة وفيات العلماء، وتدوين أنساب القبائل، وضبط التنظيم الإداري والمالي للدولة الإسلامية بوضع سجلات الدواوين، كديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان العطاء. فكثيراً ما نقرأ في الأخبار أن فلاناً وُلد عام كذا وكذا، فكانوا يؤرخون بعض الأحداث السكانية بالوقائع الكبرى والحوادث التي تحفظها ذاكرتهم الجماعية. وفي معظم الحالات، بعد مرور الوقت على الأحداث والظواهر السكانية المعنية[13]. وقد نبّه الذهبي عندما تطرق إلى موضوع الوفيات، إلى أن المسلمين الأوائل لم يعتنوا بضبطها كما ينبغي، بل اتكلوا على حفظهم، فذهبت وفيات خلق من الأعيان من الصحابة ومن تبعهم، إلى قريب زمان الشافعي، ثم اعتنى المتأخرون بضبط وفيات العلماء وغيرهم، حتى ضبطوا جماعة فيهم جهالة بالنسبة إلى معرفتنا لهم، فلهذا حُفظت وفيات خلق من المجهولين، وجُهلت وفيات أئمة من المعروفين[14]. ودائماً كان حضور الذكور في الوقائع السكانية المدوّنة أكثر من الإناث.في الغرب الإسلامي، سبق للمختار السوسي أن طرح مشكل عدم اهتمام المغاربة، سواء في جيله أو قبله، بتسجيل تواريخ الميلاد والوفاة بنوع من الضبط، أي باليوم والشهر والسنة: «لأن الناس لا يعتنون بمثل هذا في ذلك الجيل، بل لا يزال غالب أهل هذا الجيل نفسه على هذه الوتيرة»[15]، وأنكر الكاتب نفسه على أهل هذه القرون تفريطهم في علم الأنساب وإضاعتهم له، رغم كونه علماً شريفاً، الأمر الذي أدى إلى اختلاط الأنساب وتبدلها[16].تتنوّع مصادر المادة المعرفية التي يمكن الرجوع إليها من قبل الباحث في الديمغرافيا التاريخية الإسلامية عامة، وفي الديمغرافيا التاريخية لبلاد المغرب الوسيط خاصة، وتفتح آفاقاً رحبة أمام البحث في هذا التخصّص الفتي، وإن كانت مادتها تختلف تماماً عن طبيعة المعارف السكانية التي قدمتها السجلات البرواسية (الخورية) في تاريخ أوروبا، منذ نهاية عصورها الوسطى للباحثين في الديمغرافيا التاريخية الأوروبية.تجدر الإشارة إلى أن كل المصادر التاريخية التقليدية، بما فيها كتب الأنساب والطبقات والتراجم والوفيات، وكتب السيرة والمغازي والتاريخ العام، وكتب الحديث وأدب الرحلات، وكتب النوازل الفقهية، وسجلات الخراج والضرائب، وتقاييد وكنانيش المحاكم الشرعية، ومختلف العقود ذات الصلة بالمواريث والبيوع والأحوال الشخصية، توفر للباحث في هذا الحقل المعرفي الجديد صنوفاً من المعارف السكانية التي تتصل بشكل أو بآخر بالأحداث السكانية المختلفة، كالزيجات والولادات والخصوبة والوفيات والهجرات السكانية. ومن دون الدخول في تحليل طبيعة كل جنس من هذه الأجناس المصدرية، وبيان نوعية وقيمة المعطيات التي تمدّنا بها، نركّز في حديثنا على نوع واحد منها، وهو كتب التاريخ العام، من خلال نموذج ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر أو كتاب العبر لمؤلفه عبد الرحمن بن خلدون.

ثانياً: الكتابات التاريخية لابن خلدون

تشمل الاستغرافيا الخلدونية المقدمة والتاريخ والتعريف، أي ما يشكّل في مجموعه تاريخ ابن خلدون أو ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، وهو المصنّف الذي تبلور من خلاله التصور الخلدوني للتاريخ كجانب تنظيري في المقدمة، ثم التاريخ كما جمعه ودوّنه في تاريخه، وأخيراً السيرة الذاتية للمؤلف وأسرته، كما وردت في التعريف.1 ـ تأليف «تاريخ ابن خلدون»يحدثنا ابن خلدون في التعريف عن أبحاثه ونشاطه التأليفي أثناء السنوات الأربع التي قضاها في قلعة ابن سلامة بقوله: «فأقمت بها أربعة أعوام متخلياً عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها، وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس... وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا الكتاب، وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوّفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت الكثير من حفظي، وأردت التنقيح والتصحيح...»[17].ويضيف قائلاً عن تجربته في تونس: «... فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس والرحلة إلى تونس... وإذا بخطابه وعهوده بالأمان... فكان الخفوف للرحلة... وارتحلنا في رجب سنة ثمانين (780هـ)... وآويت إلى ظل ظليل من عناية السلطان وحرمته... ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على شأنهم في التأليب عليّ والسعاية بي والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك، وقد كلفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوّفه إلى المعارف والأخبار واقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر وزناتة، وكتبت من أخبار الدولتين [الأموية والعباسية] وما قبل الإسلام ما وصل إليّ منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته»[18].وبعد ذلك يورد إشارات إلى استمرار أبحاثه أثناء إقامته في المشرق: «وركبت البحر منتصف شعبان من السنة (784هـ)... وتفرّغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم ...»[19]. «... ومضيت على حالي من الانقباض والتدريس والتأليف»[20]، «ما زلت منذ العزل عن القضاء لأول سنة سبع وثمانين مكبّاً على الاشتغال بالعلم تأليفاً وتدريساً»[21].نستنتج من هذه الشهادات أن ابن خلدون كان قد جمع في ذاكرته تاريخاً لبلاد المغرب من خلال نحو الخمس عشرة سنة التي قضاها في قصور الملوك والأمراء، ومن خلال احتكاكه المباشر لما يزيد على عقد من الزمن بالمجتمع البدوي، لاجئاً تارة، ومن أجل الاستئلاف تارة أخرى. وقد شكّلت هذه التجربة الطويلة أولى مصادر تأليفه الضخم.وبحسب ما جاء في النصّ السابق، يبدو أن ابن خلدون بدأ بتأليف المقدمة، ثم انتقل إلى تدوين الأخبار، وكتب تاريخ العرب، ونقح المقدمة، ولا شك في أنه وسع تأليفه عندما رحل إلى مصر سنة 784هـ، وهو ما قد تدل عليه الإشارات التي أوردناها سابقاً. كما نبّه ابن تاويت الطنجي، محقق التعريف إلى أن ابن خلدون ظلّ ينقّح تأليفه، ويدخل عليه تعديلات متتالية بقوله: «وقد عرف عن ابن خلدون أنه كانت تصدر عنه نسخ من كتابه... يهديها إلى الملوك والوزراء تارة، ويأخذ عنه الطلبة الدارسون تارة أخرى. فلقد أهدى ـ وهو في المغرب ـ النسخة الأولى من كتابه لأبي العباس الحفصي... وحينما رحل إلى مصر أهدى نسخة أخرى إلى الملك الظاهر برقوق ما بين سنتي 784هـ و791هـ، وهذه النسخة هي التي سمّاها بـكتاب الظاهري، ثم بعث من مصر في سنة 799هـ نسخة ثالثة لتوضع في خزانة الكتب التي في جامع القرويين في فاس وقفاً على طلبة العلم، وكان الملك حينذاك أبا فارس عبد العزيز المريني (796هـ ـ 799هـ)، ولذلك قدم الكتاب باسمه، وكل واحدة من هذه النسخ تختلف عن سابقتها صدوراً عن المؤلف بما كان يضيفه إلى الكتاب من ملحقات ويدخله على أبوابه وفصوله من تعديلات... و«المقدمة» و«التاريخ»، وهذا الجزء [التعريف] في هذا الحكم سواء»[22].2 ـ «المقدمة»تمثل المقدمة الكتاب الأول من العبر، وهي مكوّنة من مقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط، وذكر شيء من أسبابها[23]، ومن الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر، والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب[24]، وقد أشار في آخرها إلى أنه ألفها في خمسة أشهر عام 779هـ : «أتممت هذا الجزء الأول بالوضع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة ثم نقحته بعد ذلك، وهذبته وألحقت به تواريخ الأمم»[25].والمقدمة تقعيد لتصور جديد للتاريخ يقوم على منهج المقابلة والمطابقة، وتأسيس لعلم العمران البشري، ينتقد فيه ابن خلدون منهج الإسناد الذي اعتمده سابقوه في رواية الأخبار، وفي هذا الصدد يقول: «وأما الأخبار عن الواقعات، فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه»[26].3 ـ «التاريخ»يغطي تاريخ ابن خلدون الكتابين الثاني والثالث من العبر، فأما الكتاب الثاني فيشتمل على: «أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد، مع الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم، مثل النبط والسِّريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة»[27]، بينما ألف «الكتاب الثالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان بديار المغرب خاصة من الملك والدول»[28].وفي ما بين 1847م و1852م نشر دوسلان تاريخ شمال أفريقيا في مجلدين في الجزائر، ونشر ترجمتهما الفرنسية ما بين 1852م و1856م، كما أتم نشر المقدمة ـ التي كان المستشرق الفرنسي كاترمير (Quatremère) قد بدأ نشرها ـ في ثلاثة أجزاء سنة 1958م في باريس[29].أي تاريخ كان يقصد ابن خلدون؟ ما هو المجال الجغرافي التاريخي لكتاب العبر؟ هل التاريخ الذي كان ابن خلدون ينوي كتابته هو فقط تاريخ بلاد المغرب، خصوصاً أنه قال في المقدمة: «لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه»[30]، أم أنه كان ينوي كتابة تاريخ أشمل من ذلك؟يبدو أن ابن خلدون أراد في البداية كتابة تاريخ المغرب لا غير، ومنه استنتج تنظيرات المقدمة، غير أنه وسع تاريخه بالإلماع إلى تواريخ أمم أخرى، وهو ما يدل عليه قوله: «ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتناء أنواره وقضاء الفرض والسنّة... والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره، فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار... سالكاً سبيل الاختصار والتلخيص، مقتدياً بالمرام السهل... فاستوعب أخبار الخليقة... وأعطى لحوادث الدول عللاً وأسباباً...»[31].هكذا تطور المشروع الخلدوني من تاريخ المغرب الذي كان هدفه الأساسي، إلى تاريخ الخليقة على غرار ما قام به المسعودي، خاصة أن عصر ابن خلدون كان عصر تحول بعد التبدل الكبير الذي لحق بالمغرب نتيجة غزوة بني هلال في القرن الخامس الهجري، والطاعون الجارف الذي اجتاح المنطقة مع منتصف القرن الثامن الهجري: «... وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة... فاحتاج لهذا العهد من يدوّن أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها... ويقفو مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده...»[32].هذه التوضيحات التي يقدمها ابن خلدون عن استغرافيته تدل على أنه انطلق من تاريخ المغرب كمجتمع ذي بنيات قبلية، واستنتج منه تنظيراته، وعمل على «توسيع مجال تطبيق نظرية العصبية لتفسير تاريخ الشعوب ذات البنيات القبلية المماثلة»[33]، واتخذ من المسعودي مثلاً أعلى عندما سمحت له مصادره بتوسيع تاريخه ليكون جامعاً لأخبار الخليقة، كما فعل المسعودي، ولكن بمنهج مغاير تماماً.4 ـ «التعريف»هو سيرة ذاتية ختم بها كتاب العبر، وصار مجموع هذه السيرة يُعرف بـ «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً» وصل فيه إلى عام 808هـ سنة وفاته، وقد نشر التعريف في طبعة منقحة في القاهرة عام 1951م بتحقيق محمد بن تاويت الطنجي[34].كانت أول طبعة كاملة لكتاب العبر بأجزائه الثلاثة (المقدمة، والتاريخ، والتعريف) قد صدرت في القاهرة عام 1868م، غير أن طبعة دار الكتاب اللبناني (بيروت) كانت أكمل منها، وصدرت هي أيضاً في 7 مجلدات فيما بين (1956م ـ 1959م)، ويعتبر الكتاب الثالث المتضمن تاريخ شمال إفريقيا، أهم أقسام العبر بعد المقدمة، وكان ابن خلدون قد حبس نسخة من العبر في 7 أسفار على خزانة القرويين، ولم يبق منها غير المجلدين 3 و5 تحت الرقم 362، وما زال أول الكتاب الخامس يحتفظ على صيغة الوقف بتاريخ 799هـ، يتلو ذلك توقيع ابن خلدون بخط يده[35].5 ـابن خلدون بين نصوص «المقدمة» وكتابة «التاريخ»رغم أن التاريخ الحدثي والسياسي كان يطبع حقل التاريخ في عصر ابن خلدون، ورغم أن القضية المركزية كانت تتمثل عنده بقضية السلطة والدولة، فإن المطالع لـتاريخه يلاحظ أنه لم يُعر اهتماماً كبيراً لمسألة تدوين الأحداث، بحسب الحوليات، عكس ما فعله إخباريو العصر الوسيط. كما أنه اعتمد مقياس العصبية في كتابة تاريخه: فهو يتتبّع القبيلة في علاقات أفرادها وبطونها وكافة قسماتها، وفي أحوال معاشها، وصراعها مع العصبيات الأخرى، وخضوع العصبيات لبعضها البعض، واستغلال العصبية القوية والهامشية فرصة ضعف عصبية الدولة القائمة والانقضاض على السلطة، وهو يتحدّث عن عصبية مصمودة وصنهاجة، وعن دولهما من دون الإشارة إلى التواريخ التي حكمت فيها هذه العصبيات، وهذا تجديد منه باعتماد العصبية مقياساً لكتابة التاريخ، ومن هنا يمكن القول بوجود تطابق بين المقدمة والتاريخ[36]، باستثناء التباس واضح يتعلق بالمثل الأعلى الديني الذي افتقدت له عصبية زناتة، ولم يشر إليه ابن خلدون وكأنه غضّ عنه الطرف. ورغم أنه عاش في كنف زناتة في المغربين الأوسط والأقصى قسماً من عمره، فإنه ظل وفياً لموضوعيته، ولم يساير مؤرخي المرينيين، مثلاً، حينما حاولوا أن يجعلوا من مؤسس الدولة المرينية عبد الحق ولياً صالحاً[37].اعتمد ابن خلدون التركيب في معالجة وتدوين التاريخ، فاتجاهه شمولي، وبالتالي فهو ليس بمصدر في كثير من الجزئيات والتفاصيل، عكس ما تميّز به سابقوه من الإطناب في الروايات المملّة[38].

ثالثاً: قضايا الديمغرافيا التاريخية للمغرب الوسيط في كتابات ابن خلدون

1 ـ من خلال سيرة ابن خلدون ـ «التعريف»إذا كان التأليف في السيرة الذاتية في حدّ ذاته حدثاً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الباحث في الديمغرافيا التاريخية، فإن ابن خلدون يبدو في هذه السيرة محاصراً بانشغالات علمية وسياسية، الأمر الذي جعله يحاول الدفاع عن مكانته ومكانة أسرته العلمية، ويعمل على إبراز دوره السياسي في خضمّ الأحداث المتلاحقة والمتدافعة التي شهدها الغرب الإسلامي في عصره.لذلك، فإن المهتم بالديمغرافيا التاريخية لا يكاد يعثر في التعريف سوى على إشارات قليلة تتعلق بنسب بني خلدون، أسرة المؤلف وتنقلاتها، ونشأة ابن خلدون ومشيخته وتنقلاته بين أقطار الغرب الإسلامي وأمصاره، لأن ما خصصه لنسب أسرته ومشيخته لا يتجاوز صفحات معدودة، إضافة إلى وجود حلقات شبه غامضة، إن لم نقل مفقودة، في نسب بني خلدون، وهو ما يشير إليه عندما قال عن نسبه في هذا البيت: «عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون. لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عدداً، لأن خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس، فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة... ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حُجْر من أقيال العرب معروف له صحبة»[39].ومعلوم أن ابن خلدون اعتمد في ضبط هذا النسب على نسابة العرب، وخصوصاً ما كتبه ابن حزم، وابن عبد البر، وابن حيان، وعندما خلص إلى الحديث عن نشأته وتلمذته، فإنه لخّصها في عبارات قصيرة ليمر بسرعة إلى تفصيل الحديث عن مشيخته، إذ قال: «أما نشأتي، فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن بُرَّال الأنصاري... وبعد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة... ودارست عليه كتباً جمة... ولم أكملها بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي وعلى أساتذتي بتونس...»[40].وبعد ذلك ينتقل إلى الحديث عن مشايخه في تونس وفاس، وعن الولايات والخطط والوظائف التي تقلّدها في مختلف أقطار الغرب الإسلامي ومصر. ولا نكاد نعثر في التعريف على معلومات تخصّ الحياة الأسرية لابن خلدون، باستثناء إشاراته العابرة إلى ترك أهله وعياله في إقامتهم أو إيصائه بهم عند أصحابه أو أقاربه أثناء أسفاره بحثاً عن المجد السياسي أو فراراً من الملاحقات، إلى أن يستقرّ في البلد الجديد، ثم يبعث إلى أهله وولده بالقدوم، كما فعل سنة 764هـ عندما اختار التوجّه من فاس إلى الأندلس، وقال: «فاخترت الأندلس، وصرفت ولدي وأمهم إلى أخوالهم... بقسنطينة فاتح أربع وستين، وجعلت أنا طريقي على الأندلس»[41].فلا يكاد الباحث يتبيّن ملامح شخصية ابن خلدون الطفل والمراهق، الذي لا نعرف عن نشأته غير الانكباب على تحصيل العلم والتنقل بين دروسه وحلقاته. ولا نقف بوضوح على معطيات حول تفاصيل حياته الأسرية من شأنها، إن وجدت، أن تسمح بوضع جدول متكامل ومتجانس بأسماء أفراد أسرته وتواريخ الأحداث الديمغرافية المتصلة بهم من ميلاد وزواج، باستثناء بعض تواريخ الوفيات المتفرّقة، وبالتالي يصعب على الباحث استرجاع أو إعادة بناء أسرة ابن خلدون استناداً إلى ما كتبه في التعريف.2 ـ مسألة الطاعون الأسودتعتبر الكوارث الديمغرافية أحداثاً غير عادية تضرب بعمق، وتهلك السكان بكميات مفجعة، وتخلّف بصمات حالكة في الأذهان، وفي الذاكرة الجماعية للسكان. ويمكن للكوارث الديمغرافية أن تكون ناجمة عن أوبئة أو مجاعات وحروب. وإذا كان الوصف الكيفي لهذه الأزمات يبدو سهلاً، فإنه يصعب تناولها كمياً، لمعرفة مختلف مظاهرها وانعكاساتها الديمغرافية، ذلك أن الأمر يتطلب معرفة ليس عدد الوفيات فقط، ولكن عدد الأحياء أيضاً، ومن هنا فإن نسبة الوفيات إلى الأحياء هي وحدها الكفيلة بتحديد مدى هول الكارثة التي أصابت الساكنة المعنية[42]. ولدراسة هذه الكوارث بدقة، وتقييم آثارها في الوضع الديمغرافي، فإن المؤرخ مطالب بمعرفة المستوى العادي لمختلف المتغيّرات الديمغرافية، وخصوصاً ما يتعلق منها بالولادات والوفيات وعدد السكان ومعدلات تكاثرهم وتوزيعهم المجالي. وبذلك يمكن تقدير حجم الكارثة، وقياس مدى انتشارها، ومعرفة مجالات وقنوات انتقال العدوى مع تيارات البضائع والأشخاص.كانت الطواعين التي اجتاحت بلاد المغرب منذ العصر الوسيط قد طرحت عدة إشكالات حول ماهية السلوكات القويمة التي كان ينبغي على المؤمن التحلّي بها، ونوعية المواقف التي كان لا بد له من اتخاذها، بغية تجنّب السقوط في ما لا يُرضي الخالق عزّ وجل، من التصرفات المنافية للشرع أثناء أوقات الطواعين. ومعلوم أن أبرز القضايا التي عالجتها التآليف والأجوبة والرسائل التي خلّفها هذا النقاش الفقهي، كانت تتمحور حول مفهوم الطاعون والوباء وأسباب وقوعه، وقضية العدوى، وما يتصل بها، من الفرار من الطاعون أو القدوم عليه، ومسألة شهادة المطعون وشروطها، وبعض الرقى المستعملة من الطاعون وأشباهه من البلايا الجسيمة[43].كانت الأدبيات التي تركها المعاصرون لأوبئة وطواعين بلاد المغرب، تسترجع ما جاء به الأوائل من علماء المالكية في الموضوع، ولم تأت بجديد في هذا الباب، وكانت تصبّ في النهي عن الفرار أو القدوم على الطاعون، ومن ثم إبطال العدوى والطيرة، والخضوع التام للقضاء والقدر بغية تحصيل الشهادة[44].لم يخرج علي بن محمد هيدور التادلي (توفي عام 816هـ/1413م)، الذي عاصر ابن خلدون، عن ذلك الإطار في رسالته حول «ماهية الأمراض الوبائية». فهو يحدد معنى الوباء ـ الذي لا يعني به سوى الطاعون ـ بتمييزه من المرض العادي، ويفسر حدوث الطاعون بأسباب فلكية، وأخرى طبية كفساد الهواء والأغذية في أوقات المساغب والشدائد، وينتقل إلى طرق العلاج المتمثلة بالأذكار والأدعية اللازم ترديدها عند نزول الطاعون، كما قدم نصائح للوقاية من تعفن الهواء والأغذية[45].وكان للطاعون الأسود الذي عرفه حوض البحر المتوسط في القرن الرابع عشر الميلادي دور في أزمة عصر ابن خلدون، وكان هذا الوباء قد زحف على بلاد المغرب منذ كانون الثاني/يناير 1348م، إلا أن الإشارات المصدرية ناقصة، ولا تسمح بتقدير إحصائي لأبعاد هذا الحدث وآثاره، برغم أهميته وخطورته في التاريخ الديمغرافي للمغرب الوسيط. وابن خلدون نفسه الذي شكّل الوباء بالنسبة إليه أحد الدوافع النفسية الأساسية التي حثّته على كتابة تاريخه، لم يفرد لهذا الوباء سوى صفحة واحدة أو قل جملاً معدودة. ويعزى هذا العزوف في الاستغرافيا الإسلامية عن إطالة الحديث عن الطاعون إلى طبيعة الذهنية السائدة التي كانت تعتبر الطاعون ظاهرة إيجابية باعتباره عقاباً إلهياً للكفار ومناسبة للمؤمنين للفوز بالشهادة والرحمة[46].لم يقحم ابن خلدون نفسه في هذا النقاش الفقهي حول القدوم على/أو الفرار من البلد المطعون، وبدا أكثر عقلانية عند تناول هذه الجائحة التي ربط وقوعها بهرم الدول وبلوغ الغاية من مداها، حيث كثرة الموتان في أواخرها. وقد يكون منسجماً تماماً مع المبادئ التي عبّر عنها عندما انتقد مغالط المؤرخين، كالنقل والتقليد، وعدم تمحيص الأخبار والروايات. كما لم يدرس الطاعون الأسود ـ الذي يسمّيه: «الطاعون الجارف» ـ ككارثة ديمغرافية شاملة حلّت ببلاد المغرب مع منتصف القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، ليقدم حوله معطيات إحصائية قد تفيد في تقدير عدد ضحاياه. وهو لا يشير إليه إلا عند وصفه الآثار المدمرة لهذه الكارثة على العمران والعباد في عصره، والتي أعقبت الاضطراب العمراني الذي خلفته الهجرات العربية لبني هلال وبني سليم في القرن الخامس الهجري، حيث قال في المقدمة: «... وأما لهذا العهد، وهو آخر المائة الثامنة، فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه، وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم في ما بقي من البلدان لملكهم، هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلّص من ظلالها، وفلّ من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث...»[47].يذكر ابن خلدون «الطاعون الجارف» في إشارات متفرّقة في عدة مواضع من أجزاء تاريخه وسيرته الذاتية، وذلك في سياق وفيات الأعلام التي يوردها من حين إلى آخر، والتي يستفاد منها ببعض تواريخ الوفيات الفردية. ومن تلك العبارات ما كتبه عند حديثه عن تقلّده ولاية العلامة في تونس: «ولم أزل منذ نشأت وناهزت مكبّاً على تحصيل العلم، حريصاً على اقتناء الفضائل، متنقلاً بين دروس العلم وحلقاته، إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب الأعيان والصدور وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله»[48]، والتي تفيدنا بمدى هول الكارثة التي أهلكت الأعيان ومشيخة ابن خلدون ووالديه. ومنها أنه عندما أورد خبر وفاة كاتب السلطان أبي الحسن المريني وصاحب علامته أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، قال: «هلك بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة»[49]، «ثم جاء الطاعون الجارف فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس»[50].ويستطرد أحياناً مضيفاً تاريخ الميلاد إلى سنة الوفاة، كما فعل بالنسبة إلى الكاتب عبد المهيمن الحضرمي نفسه: «ثم توفي لأيام قلائل بتونس بالطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة ومولده سنة خمس وسبعين وستمائة من المائة قبلها»[51]، وعندما ذكر مشايخه في تونس ختم كلامه بقوله: «ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف»[52]. وعندما تطرّق إلى من حضر إلى جانب السلطان أبي الحسن في أفريقيا، قال: «وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه، هلك كثير منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق، وتخطّت النكبة منهم آخرين إلى أن استوفوا ما قُدر من آجالهم»[53].ومما يستفاد من هذه العبارات أيضاً أن جولات الطاعون الأسود كانت شديدة الوطأة على بلاد المغرب الوسيط على الأقل في ما بين سنتي 749هـ و751هـ، حيث تقع تواريخ الوفيات التي أوردها ابن خلدون ضمن الإشارات السالفة الذكر، وحيث أوقعت هذه الجائحة معظم ضحاياها. وعموماً، فإذا كانت هذه الإشارات مفيدة في دراسة الوفيات الفردية لبعض الخاصة من المشايخ والعلماء والأعيان ورجالات الدولة الذين اعتنى ابن خلدون بوفياتهم، فإنها لا تسمح للباحث بإجراء تقدير كمّي أو تعداد الوفيات الناجمة عن الطاعون الأسود.3 ـ المفاهيم الديمغرافية المهيكلة للانتقال من العصبية القبلية إلى الدولةيحتل الانتقال من العصبية القبلية إلى الدولة أهمية بالغة بالنسبة إلى الباحث في الديمغرافية التاريخية لبلاد المغرب في العصر الوسيط، وخاصة أن المفاهيم والأفكار التي يتمحور حولها تفسر تاريخ المغرب الوسيط فقط، وقبل الخوض في تجليات هذا الانتقال وتداعياته الديمغرافية لا بد من تحديد بعض المفاهيم ذات الحمولة الديمغرافية المتصلة به وحصر معانيها عند صاحب المقدمة.أ ـ القبيلة: هي اجتماع لمجموعات بشرية تدّعي الانتماء إلى جد أعلى مشترك قد يكون حقيقة، وقد يكون وهماً، وفي هذه الحالة الأخيرة تكون وحدة المجال الجغرافي للقبيلة مقدمة على النسب. هذا الاعتقاد في الانتماء المشترك يميّز القبيلة من المجموعات الأخرى، فتكون علاقتها بتلك المجموعات المختلفة عنها، من حيث النسب ورابطة القرابة والمجال، علاقات تعارض وصراع وتنافس، وقد تكون علاقات تحالف وجوار وتعاون، ولكن موجّهة ضد قسمة أو جماعة أخرى معارضة، ويحكم هذا التعارض قانون الصراع القبلي في معناه الصِّدامي والانقسامي[54]، ويتبلور هذا المفعول في النعرة والتناصر والتعصب، وهو مفعول طبيعي تحركه رابطة القرابة والنسب وروابط الولاء والحلف والجوار[55].وقد قام نسابة العرب بتصنيف التجمّعات القبلية على أساس الكثرة والقلة كما يلي: الأمة، الشعب، القبيلة، الإمارة، البطن، الفخذ، العشيرة (العشير)، ثم الفصيلة. وأكثر هذه المصطلحات استعمالاً عند ابن خلدون، هي القبيلة والعشير والبطن، وأحياناً يستعمل الأمة والجيل بمعنى القبيلة الكبرى، وتضم القبيلة عادة ثلاثة أصناف من الأفراد: صرحاء النسب، ويتفاوتون في النسب بتفاوت بيوتهم في الحسب؛ الموالي واللصقاء، أي المرتبطون بالقبيلة بواسطة الجوار والحِلف أو بالاصطناع؛ ثم العبيد المسترقون، وهم في الغالب أسرى الحروب والغزوات[56].ب ـ الجيل: هو الأمة؛ والأمة: القبيلة الكبرى أو مجموعة قبائل تجمعها رابطة النسب، وفي هذا المعنى يستعمل ابن خلدون كلمة «جيل»: «إن اختلاف الأجيال (أي الشعوب والقبائل) في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش». وأحياناً يستعمل «الجيل» بمعنى مرحلة معينة أو مستوى معيّن من مستويات التطور البشري نحو الحضارة والتمدن: «أجيال البدو»، «أجيال الحضر»، «جيل العرب في الخلقة طبيعي»، ومعنى هذه العبارة أن نمط الحياة الخاص بـ «العرب ومن في معناهم» مرحلة طبيعية في سلّم التطور البشري، لأنه أسلوب في العيش والحياة تفرضه عليهم الظروف الطبيعية والمعاشية لمناطق سكناهم. وأحياناً نقرأ عنده «الأجيال الحادثة»، أي أبناء وحفدة إحدى العصبيات[57].ج ـ العصبية: يتحدد مفهوم العصبية الخلدونية كما يلي:«العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه»[58]، والنسب ليس الرابطة الدموية دائماً، فالنسب بهذا المعنى «أمر وهمي لا حقيقة له»، فالقرابة الدموية تبقى نسبية، إذن، وإنما المقصود بالنسب فائدته وثمرته، وهو «هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة. وما فوق ذلك مستغنى عنه»[59]، وكل ما يقع به هذا الالتحام فهو داخل في معنى النسب. يصبح هذا الالتحام عصبية عندما يكون هناك تهديد خارجي لكيان القبيلة «فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك»[60]. فالعصبية أساسها الانتماء إلى القبيلة، وهي تقوم على صلة الرحم، وعلى نموذجين من الصراع القبلي حول السلطة هما:ـ نموذج تنافسي من أجل الرياسة داخل القبيلة، وهو عنف يمارسه الشيوخ وأصحاب الرأي والجماعة على أفراد القبيلة أجمعين، ويختص فيه الذكور الكبار بالحكم، بحيث يقصى الشباب والنساء.ـ نموذج خارجي للصراع والاندماج والتحالف بين عصبيات متعددة، تميل فيه القبيلة إلى الحفاظ على توازنها ووجودها بمصارعة القبائل المعادية لها.وكلا العنفين أو النموذجين من الصراع يلخصهما المثل العربي القائل: «أنا ضد أخي، وأنا وأخي ضد ابن عمي، وأنا وأخي وابن عمي ضد الجميع»، وهذا يعني أننا في محضر مجتمع عصائبي أو لفائفي[61]، والنموذج الثاني من الصراع هو الذي يتوّج بنشوء الدولة، لكنه لا يتم بدون الأول. وهناك شرطان لازمان لهذا النوع من العصبية العامة، أولهما قيام العصبية الجديدة بدعوة إلى تصحيح العقيدة، وثانيهما وجود دولة في طور الهرم.ويعتبر مفهوم التطور مفهوماً أساسياً في الانتقال من القبيلة، أي من العصبية إلى الدولة عند ابن خلدون، كما أن غاية العصبية عنده هي الملك: «فالغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك»[62].يمر تطور الدولة أو العصبية بثلاثة أطوار، هي: طور النشوء، حيث تكون قوة العصبيات المكوّنة للدولة ذات شوكة؛ وطور النضج، حيث تستقل عصبية واحدة بالملك والمجد، وتعوض العصبيات الأخرى بالموالي والصنائع؛ ثم طور الكهولة، حيث تتفسخ العصبية المؤسسة بسبب عوائد الترف وانحطاط الأخلاق، والإنفاق الزائد. وتصبح الدولة ملكاً للموالي والعبيد، وتستمر في التلاشي ما لم يأتها مطالب للملك، أي ما لم تصبح في تناقض مع عصبية جديدة قد ترقى إلى السلطة وتقيم دولة جديدة[63].وإذا كان العمران عند ابن خلدون حركة انتقال من البداوة إلى الحضارة عبر الدولة، فإن ذلك يتم انطلاقاً من تناقض أساسي بين البدو والحضر. يقول في المقدمة: «فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر»، «والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولّت حراستهم، وتنزلوا منزلة النساء والولدان... وأهل البدو لتفرّدهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي... قائمون بالمدافعة عن أنفسهم... قد صار لهم البأس خلقاً، والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع...»[64].وهو يرجع هذا الاختلاف بين البدو والحضر إلى تباينهم من حيث المعاش: «إنما اختلاف الأمم والأجيال باختلاف نحلتهم في المعاش»، أو ما يمكن التعبير عنه بنمط العيش، ويعني ابن خلدون بالبدو سكان القفر أو الجبل لاستغراقهم في التوحش، أي الموغلون في البداوة والانعزال في القفار والجبال، وهم يقتصرون على الضروري من المعاش، كالفلح والقيام بالأنعام وسائر الأحوال والعوائد، وهؤلاء ينتقلون بشكل طبيعي من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن إلى «رقة الحضارة» في الأمصار، أي إلى التفنن في الترف واستجادة أحواله وسكنى القصور والضياع، وهذا الانتقال يتم في شكل طفرة في مدة قصيرة من الزمن، يتمكّن خلالها البدو من استلام السلطة في المدن وتأسيس الدولة[65].4 ـ أهمية القوة العددية والديمغرافية في نجاح العصبيةيرى ابن خلدون أن الكثرة والقلة لهما أهمية بالغة في صنع عزّ القبيلة أو ذلّها، وفي هذا الصدد يثير موضوع هوارة الذين ذهب اعتزازهم لقلتهم بعد كثرة: «وكانت برقة من مواطن هوارة هؤلاء... ولما خربت زُويْلة (إحدى مدن برقة) انتقلوا منها إلى فزان من بلاد الصحراء وأوطنوها، وكان لهم بها مُلك ودولة... ومن قبائل هوارة هؤلاء بالمغرب أمم كثيرة... وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة، وصاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلة والله مالك الأمور»[66].وهو يؤكد ضرورة الانتماء إلى العصبية كشرط لازم لإقامة المُلك بقوله: «ولا يتم الملك والتغلب على النواحي والقبائل لمنقطع جِذمة، دخيل في نسبه»[67]. وعندما تتغلب عصبية كبرى على عصبيات صغرى، فإنها تحتويها، كما حدث لقبائل من لمطة خضعت لذوي حسان المعقليين: «فأما لمطة فأكثرهم مجاورون للملثمين في صنهاجة، ولهم شعوب كثيرة وأكثرهم ظواعن أهل وبر، ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس صاروا في عداد ذوي حسان من معقل»[68].فالعصبيات التي تنجح في تأسيس الدول هي القبائل القوية التي تنتظم عصبياتها حول مثل أعلى أو وازع ديني تتبنّاه وتهدف من خلاله إلى تجديد العقيدة وإصلاحها، ويتزامن ظهورها مع وجود دولة في منتهى الضعف الناجم عن الاستغراق في الترف والفساد ورقة الحضارة والتفنن في الصنائع، أي في طور ما أسماه ابن خلدون بـ «الحضارة المفسدة للعمران»، وغالباً ما تأتي العصبية الجديدة من هوامش الدولة المنهارة (قفار، جبال)، وتعتبر القوة العددية والديمغرافية شرطاً لازماً لنجاح هذه العصبية.5 ـ الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاصيستفيد الباحث في الديمغرافيا التاريخية للمغرب الوسيط من التنظيرات التي أوردها ابن خلدون في علاقة بموضوع العمران البشري وتطوره، ومن جملتها المقارنة التي يجريها بين العمر الطبيعي للدولة وعمر الأشخاص. ويشير في هذا الصدد إلى: «أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص»، وأن «عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال»[69]، ويمتد كل جيل في تقديره على أربعين سنة، وطالما أن هذه الأجيال طبيعية، فإن الهرم من الأمور الطبيعية أيضاً بالنسبة إلى الدولة، يقول: «وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة، كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني»[70].يقول ابن خلدون: «إعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجّمون مائة وعشرون سنة، وهي سنو القمر الكبرى عند المنجمين، ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات، فيزيد عن هذا وينقص منه، فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامة، وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها، وأعمار هذه الملة ما بين الستين إلى السبعين كما في الحديث، ولا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة وعشرون إلا في الصور النادرة، وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السلام وقليل من قوم عاد وثمود. وأما أعمار الدول أيضاً، وإن كانت تختلف بحسب القرانات، إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته، قال تعالى: «حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة»، ولهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ...»[71].إن العمر الطبيعي الذي زعم الأطباء والمنجّمون ـ بحسب عبارة ابن خلدون ـ أنه مائة وعشرون سنة لم يتحقق في أمل الحياة/أمد الحياة عند علماء السكان في أي مجتمع من المجتمعات البشرية مهما تطور فيها مستوى المعيشة والتطبيب، وابن خلدون لا يوافق على هذا العمر النظري، وبالتالي عاد ليصححه قائلاً: «ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات، فيزيد عن هذا وينقص منه»، غير أن ابن خلدون القاضي والفقيه السنّي المالكي يرجح ما جاء في الحديث النبوي الحسن الصحيح، حول أعمار هذه الأمة، والذي أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله (ﷺ) قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك»[72]، كما ورد في مختصر سنن الترمذي[73]، وأخرجه ابن ماجة أيضاً عن أبي هريرة[74].أعمار الدول هي كأعمار الأشخاص، وبرغم اختلافها هي الأخرى بحسب القرانات الفلكية، فإنها «لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته» مصداقاً لقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾[75]، فهل كان ابن خلدون يقدر العمر المتوسط لأبناء عصره بأربعين سنة؟ إنه سؤال يحتاج إلى بحث موسع في الولادات والوفيات في بلاد المغرب الوسيط للإجابة عنه.6 ـ كثرة السكان وارتفاع الوفيات في آخر الدولةولعل أهم القوانين الديمغرافية التي اهتدى إليها صاحب المقدمة هو وفور العمران في آخر الدولة ووقوع الموتان والمجاعات بكثرة في هذا الطور من تطورها، ويقول في هذا الشأن: «الدولة في أولها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيّالتها [في المغارم ومختلف التكاليف]... وإذا كانت الملكة رفيقة مُحسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابِه فتُوفِّر ويكثر التناسل، وإذا كان ذلك كله بالتدريج، فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل، وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي، فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء... ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول والسبب فيه: أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاض الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة... وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة، فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء، وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العَفن والرطوبات الفاسدة... فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة وهذه هي الطواعين وأمراضها... وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحُميَّات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك، وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم... ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب...»[76].هكذا بعد جيل أو جيلين من حسن السياسة والرأفة بالرعايا، يزدهر العمران والصنائع والاقتصاد ويكثر النسل وترتفع الولادات بالتدريج وتستكثر العصبية من الموالي والصنائع، وهم عيال على أهلها، فيتكاثر السكان، وتكون الدولة قد دخلت الجيل الثالث والأخير من عمرها، أي ما يعرف عند ابن خلدون بالحضارة المفسدة للعمران، فترتفع الجبايات لسد نفقات حياة الترف، فينقبض الناس عن العمل والإنتاج وتكثر المجاعات والأوبئة، وترتفع الوفيات بسبب كثرة السكان من جهة وللكوارث الديمغرافية الناجمة عن اختلال الدولة واندلاع الفتن والاضطرابات الممهدة لسقوطها في أطرافها، وبالتالي فنحن أمام دورة ديمغرافية موازية لتطور الدولة، تكون آثارها جلية في الحواضر الكبرى ذات الحجم السكاني المرتفع، بينما تقل أضرارها على مستوى البوادي عامة والقفار والجبال خاصة لقلة سكانها أصلاً واكتفائهم بالحد الأدنى الضروري في المعاش.يلاحظ الباحث تطابقاً بين المقدمة والتاريخ في ما يتعلق بالإشارة إلى كثرة المجاعات والوفيات في أواخر أيام الدول. ومن الإشارات الديمغرافية التي وردت في تاريخ ابن خلدون، والتي تدعم ما جاء في هذا النصّ من ارتفاع الوفيات، سواء الطبيعية منها أم الناتجة من الأوبئة والمجاعات والحروب في أواخر عمر الدولة وإبان انتقال السلطة من عصبية منهارة إلى عصبية حادثة، ما ذكره بخصوص حرب الجبال أثناء قيام دولة الموحدين، إذ قال: «وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب، فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين (وخمسمائة) إلى سنة إحدى وأربعين... وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسيط، والناس يفرون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب للدفء، إلى أن وصل إلى جبال غمارة، واشتعلت نار الفتنة والغلاء في المغرب، وامتنعت الرعايا من المغرم، وألحّ الطاغية على المسلمين بالعدوة»[77]، ويضيف حول حصار مراكش: «ولما ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش... وسرح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة، فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعاً إلى مراكش وقد ضموا إليها جموع لمطة، فأوقع بهم الموحدون، وأثخنوا فيهم قتلاً واكتسحوا أموالهم وظعائنهم. وقاموا على مراكش سبعة أشهر وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف بايعوه صبياً... ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين، فانهزموا وتتبعهم الموحدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وقتل عامة الملثمين، ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحدين، وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم... وامحى أثر الملثمين...»[78].7 ـ حظ العصبية من الفناء بمقدار حظها من الاستيلاءيرى ابن خلدون أن حظ العصبية من الفناء عند انهيار الدولة يكون بمقدار حظها من الاستيلاء والمشاركة في الحكم، ونورد هنا خبر مصير تنملل بعد سقوط دولة بني عبد المؤمن كنموذج، حيث يقول: «وكذا تنملل إخوانُهم [يقصد إخوانُ هرغة] في التعصب على دعوة المهدي... فكان حظهم من الفناء بمقدار حظهم من الاستيلاء، وأبْعِدوا في ممالك الدولة وعمالاتها [أي تحمّلوا مختلف المهام]، فانقرض رجالاتهم وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم»[79]. هكذا، فإن عصبية تنملل ضعفت وتعرضت للتبديد والاستنزاف لأنها شاركت بقوة في تحمّل أعباء الدولة الموحدية، الأمر الذي جعلها تخضع لرياسة غيرها من المصامدة بعد سقوط هذه الدولة.فالعصبية رأسمال بشري تستنزفه الدولة بالإنفاق في الحروب التي تهلك رجالها، والقبيلة المنضوية تحت لواء عصبية ما تتعرض للاستنزاف بمقدار مخالطتها للعصبية الحاكمة في نعيمها، والباحث المتأمل في التاريخ الديمغرافي لبلاد المغرب الوسيط يقف على هذه الحقائق، وهو ما يفهم من قوله مثلاً: «وأما هسكورة وهم أكثر قبائل المصامدة وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأما سواهم من بطون كنفيسة، فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها وإبرام عقدتها، فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم. وأما هسكورة، فكان لهم بين الموحدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم، إلا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا أنعموا في نعيمهم»[80]. والإنفاق المقصود هو بذل الرجال في الحروب والأشغال، وتحمل مختلف التكاليف والمغارم وأنواع الجبايات، وهي إنفاقات تؤدي إلى ارتفاع وفيات الذكور، وإلى التناقص العددي لأفراد الأسر في هذه العصبيات أو على الأقل إلى الحدّ من التكاثر الطبيعي لساكنتها.8 ـ أعداد الجيوش وضحايا الحروبكثيراً ما يستعمل ابن خلدون على غرار الإخباريين والمصنّفين في تاريخ الإسلام عبارات وصفية ذات حمولة ديمغرافية غامضة، غالباً ما تفيد الكثرة أو ينتابها الشك وتشوبها الريبة ويغيب فيها اليقين، كما قد تفيد أحياناً أن معرفة الأعداد الحقيقية للجيوش ولضحايا الحروب أمر خارج طاقة البشر، ولا يمكنهم القيام به أو التحكّم فيه، ولا يعلم حقيقته إلا الخالق عز وجل، وبرغم كونه يسوق معطيات رقمية، يفهم من كلامه أنه يتحفظ إزاءها ولا يعتبرها حقيقية أو نهائية. ومن تلك العبارات: «أمم لا تحصى»، «فيما يذكر»، «ما لا يحصى»، «يقال إن» أو «في نحو»، فعندما نقض المعز بن باديس طاعة بني عبيد وحول الدعوة إلى بني العباس، رمى بنو عبيد أفريقية بقبائل بني هلال وبني سليم في عام 443هـ، فخرج المعز للقاء العرب في جموع البربر وبقية عرب الفتح: «وحشد زناتة والبربر وصمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم في ما يذكر ثلاثون ألفاً. وكانت رياح وزغبة وعدي حيدران من جهة فاس. ولما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح وتحيّزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة، وخانته زناتة وصنهاجة، وكانت الهزيمة على المعز، وفر بنفسه وخاصته إلى القيروان. وانتهبت العرب جميع مخلفه من المال والمتاع والذخيرة والفساطيط والرايات، وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى. يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف وثلثمائة». ثم يورد بعد ذلك قول الشاعر وفيه تعداد رجال كل من الطرفين: «ثلاثون ألفاً منهم قد هزمتهم ثلاثة آلاف وذاك ضلال»[81].ومن ذلك ذكره ثورة محمد بن عبد الله بن هود، الملقب بالهادي، على الموحدين، في رباط ماسة، والذي كان في جيشه قرابة ستين ألفاً من المشاة وسبعمائة فارس: «فسرح إليه عبد المؤمن عسكراً من الموحدين... وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفاً من الرجال وسبعمائة من الفرسان، فهزمهم الموحدون... وذلك في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وخمسمائة»[82]. إلا أن ابن خلدون عندما يكون متثبتاً من الأرقام التي يقدمها، فإنه يستعمل عبارات لا تحتمل الشك، ومن ذلك أنه عندما أورد خبر معركة الأرك في عهد يعقوب المنصور الموحدي في عام 591هـ، ذكر أن عدد قتلى النصارى بلغ فيها ثلاثين ألفاً بقوله: «فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفاً بالسيف»[83]. وعندما تحدّث عن نفير أهل المغرب للجهاد في الأندلس في إجازة السلطان أبي يوسف الرابعة سنة 684هـ، قدم معطيات رقمية، وبدا واثقاً من صحتها، فقال: «... ووافته حصة العزفي من سبتة غزاة ناشبة تناهز خمسمائة من الرجال».«... ولعشرين من شهره (ربيع 684هـ) وصل ولي عهده، الأمير أبو يعقوب من العدوة، بنفير أهل المغرب وكافة القبائل في جيوش ضخمة، وعساكر موفورة، وركب أمير المسلمين للقائهم وبرور مقدمهم. واعترض العساكر الموافية يومئذ، فكانت ثلاثة عشر ألفاً من المصامدة، وثمانية آلاف من برابرة المغرب متطوعون كلهم بالجهاد، فعقد السلطان له على خمسة آلاف من المرتزقة، وألفين من المتطوعة، وثلاثة عشر ألفاً من الرجل، وألفين من الناشبة، وسرحه لغزو إشبيلية»[84].9 ـ مسألة الأنساب والهجرات القبليةإلى جانب ذلك تعتبر مسألة الأنساب قضية ديمغرافية محورية عند ابن خلدون ما يفتأ يعالجها من حين إلى آخر، الأمر الذي يجعل منه مصدراً مهماً في هذا المجال، خصوصاً مع ضياع العديد من المصادر التي أخذ عنها، وفي هذا الإطار فهو يتتبّع أنساب القبائل العربية والبربرية وتوزيعها المجالي وتغير مواطنها.فهو يسترجع في الجزء السادس من تاريخه أنساب بني هِلال وبني سُليم، ودخولهم بلاد المغرب وأخبارهم وفرقهم ومواطنهم، وآثار تنقلاتهم في العمران، ثم ينتقل إلى الحديث عن أخبار البربر، وعن أنماطهم في المعاش وأنسابهم ومواطنهم وبطونهم ودولهم، إذ يميز بين البربر البُتر والبرانس، ويذكر من هؤلاء قبيل صنهاجة ودولها، كآل زيري بن مناد وبني حماد، ثم يعرض للملثمين، ولدعوة المهدي بن تومرت وعصبيته مصمودة، ويعرض لأخبار الحفصيين، ويختم هذا الجزء بذكر بعض أخبار زناتة ودولة بني مرين.أما الجزء السابع، فقد خصصه لبسط أخبار زناتة بما فيها أنسابهم وتوزيعهم المجالي وأجيالهم، وما كان لها من الظهور، وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة كدولة بني يفرن في المغربين الأوسط والأقصى، ودولة مغراوة كآل زيري وبني خزرون وغيرهم من العصبيات الزناتية التي يصنفها ضمن الطبقة الأولى من قبائل زناتة، تمييزاً لها من الطبقة الثانية من قبائل زناتة التي عرض فيها أخبار بني عبد الواد في المغرب الأوسط واحتكاكاتهم الطويلة ببني مرين والحفصيين من دون إغفال دور القبائل العربية في هذه الصراعات، وهذا قبل أن ينتقل إلى الحديث عن بني مرين وأنسابهم وقبائلهم ومواطنهم ودولتهم.عموماً، فإنه يورد معلومات مفيدة في إعادة بناء أنساب العصبيات والمجموعات البشرية التي أدت أدواراً بارزة في أحداث تاريخ المغرب الوسيط، ومن شأنها أيضاً المساهمة في إعادة رسم الخريطة البشرية لمختلف فتراته التي يعالجها. ورغم ذلك، نعثر في الجزء السادس من تاريخه على ما اعتبر التباساً أخذ عليه، ويتعلق الأمر بما ذهب إليه من رفع نسب المهدي ابن تومرت إلى آل البيت، رغم أنه يذكر نسبه في بربر هرغة من بطون المصامدة، ويقول: «أصله [محمد بن تومرت] من هرغة من بطون المصامدة ...».وزعم كثير من المؤرخين أن نسبه من أهل البيت... وعلى الأمرين، فإن نسبه الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة. ووشجت عروقه فيهم والتحم بعصبيتهم، فلبس جلدتهم، وانتسب نِسْبتهم، وصار في عدادهم»[85].10 ـ الولادات والوفيات والزيجاتلا يكاد الباحث يقف في تاريخ ابن خلدون إلا على إشارات نادرة ومتفرقة حول تواريخ الميلاد والوفيات، وهي تتعلق بصفة خاصة بالقضاة والمشايخ والعلماء ورجالات الدولة الذين أعجب بهم ابن خلدون، والذين أدوا أدواراً بارزة في الحياة العلمية والسياسية والاجتماعية، بما في ذلك التدريس والقضاء والإفتاء والكتابة ومختلف الخطط والمناصب السياسية. وللإشارة، فإن هذه التواريخ تتعلق بالذكور دون الإناث. وعموماً، فإذا كانت هذه الإشارات مفيدة في دراسة الوفيات الفردية لبعض الخاصة من المشايخ والعلماء والأعيان ورجالات الدولة الذين اعتنى ابن خلدون بوفياتهم، فإنها لا تسمح للباحث بإجراء تقدير كمّي أو حساب بعض المؤشرات المتصلة بالوفيات في عصر ابن خلدون كمتوسط العمر أو معدل الوفيات، بمعنى أن تاريخ ابن خلدون ليس سجلاً للولادات والوفيات في عصره، وهو لا يخرج بذلك عن قاعدة الاستغرافيا الإسلامية عامة، وخصوصاً أمهات كتب التاريخ والمصنفات الكبرى في التاريخ العام، رغم ذكره لبعض تواريخ الميلاد والوفيات الخاصة ببعض أعيان عصره.وكذلك بالنسبة إلى الزيجات، فلا ذكر لها إلا استثناء عندما يتعلق الأمر بزيجات زعماء العصبيات القبلية ورجالات الدولة، كما فعل مثلاً عند مناقشة بعض أنساب البربر البرانس وفروعهم كلمطة وصنهاجة، حيث قال نقلاً عن النسابة ابن حزم: «يقال إن صنهاج ولمط إنما هما ابنا امرأة يقال لها بصكي، ولا يعرف لهما أب، تزوجها أوريغ فولدت له هوار، فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه»[86]، أو ذكره زواج أبي بكر بن عمر اللمثوني زعيم المرابطين من زينب بنت إسحاق النفزاوية، وكان قد خلف عليها بعد لقوط بن يوسف المغراوي صاحب أغمات الذي خلف عليها هو الآخر بعد يوسف بن علي بن عبد الرحمن الوريكي: «... وكانت مشهورة الجمال والرياسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخاً على وريكة... فتزوج لقوط زينب هذه، ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر»[87]، أو ذكره زواج السلطان أبي الحسن من أم أحمد المرغني وهو: «من طبقات كتاب الأشغال بسبتة، كان السلطان أبو الحسن تزوج أمه ليلة إجازته من واقعة طريف وافتقاد حظاياه، حتى لحق به الحرم من فاس، فردها إلى أهلها»، من دون أن يورد ابن خلدون اسمها[88]. وهي إشارات لا تسمح باسترجاع الزيجات التي تذكرها، ولا بإعادة بناء زواجية الأفراد المعنيين بها من الذكور والإناث.11 ـ ضعف التمدين في بلاد المغرب الوسيطسجل ابن خلدون ملاحظات أخرى لا تخلو من أهمية بالنسبة إلى الباحث في الديمغرافيا التاريخية للمغرب الوسيط، من جملتها قلة المدن والأمصار في أفريقيا والمغرب مقارنة ببلاد الأندلس والشام ومصر والعراق، وذلك بسبب استغراق أهل المغرب من البربر في البداوة والتوحش، ولكونهم أهل أنساب وعصبيات، وما ينتج من ذلك من عدم استقرار سياسي، وبعدهم عن الصنائع الحضرية التي لا تتم المباني إلا بها: «فلم تزل عوائد البداوة وشؤونها، فكانوا (البربر) إليها أقرب، فلم تكثر مبانيهم، وأيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو والصنائع من توابع الحضارة، وإنما تتم المباني بها، فلا بد من الحذق في تعلمها، فلما لم يكن للبربر انتحال لها لم يكن لهم تشوق إلى المباني، فضلاً عن المدن. وأيضاً فهم أهل عصبيات وأنساب لا يخلو من ذلك جمع منهم، والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو، وإنما يدعو إلى المدن الدعة والسكون ويصير ساكنها عيالاً على حاميتها، فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها، فلا يدعو إلى ذلك إلا الترف والغنى وقليل ما هو في الناس. فلذلك كان عمران أفريقية والمغرب كله أو أكثره بدوياً أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال»[89]. وذكر أيضاً من مبادئ وأسباب خراب الأمصار أنه: «إذا تراجع عمرانها وخفّ ساكنها، قلت الصنائع لأجل ذلك، وفقدت الإجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتنميق، ثم تقل الأعمال لعدم الساكن»[90]. وهي إشارات توحي كلها بأن بلاد المغرب الوسيط كانت في عصر ابن خلدون تعرف ضعفاً في التمدين، وفراغاً سكانياً ناتجاً من تراجع عمرانها بفعل الفتن والاضطرابات المرافقة لهرم دوله واستنفاذ أدوارها التاريخية، وعن الانهيار الديمغرافي الذي تسبب فيه الطاعون الجارف بحسب عبارات ابن خلدون نفسه.12 ـ صنائع ومهن ذات صلة مباشرة بموضوع الديمغرافياأورد ابن خلدون أيضاً إشارات إلى صنائع ومهن ذات صلة مباشرة بموضوع الديمغرافيا، ومنها صناعة التوليد التي أفرد لها فصلاً كاملاً قال فيه: «وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه»[91]، كما خصّ صناعة الطب بفصل آخر، وأكد أنها محتاج إليها في الحواضر والأمصار دون البادية بقوله: «هذه الصناعة ضرورية في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها، فإن ثمرتها حفظ صحة الأصحاء ودفع المرض عن المرضى... ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر لخصب عيشهم وكثرة مأكلهم... وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع أغلب عليهم، حتى صار لهم ذلك عادة ...»[92].

خاتمة

تاريخ ابن خلدون مصنف في التاريخ العام بمقدمة نظرية في التاريخ والعمران البشري وما يتصل بهما من العلوم والفنون والصنائع، مذيل بسيرة ذاتية لمؤلفه، تجمّعت فيه مواد من كتب الحديث والتفسير واللغة والأدب والسير والمغازي والأخبار والأنساب والطبقات والتراجم وأدب الرحلة، رتب أخباره في الحقبة الإسلامية على الحوليات، وهو يقدم مبادئ ديمغرافية نظرية فريدة، وإشارات ديمغرافية معرفية مهمة في جوانبها الوصفية، وأحياناً ذات طبيعة إحصائية، يقع على عاتق الباحث تمحيصها ونقدها قبل استعمالها، ولا مناص من اللجوء إلى مصادر أخرى لاستكمالها ومطابقتها لتحقيق استفادة قصوى من كافة الإشارات المعرفية ذات الحمولة الديمغرافية التي يوفرها تاريخ ابن خلدون ومختلف أجناس المصادر.لا يعتبر ابن خلدون مصدراً في التفاصيل الدقيقة ذات الصلة بمجمل قضايا تاريخ بلاد المغرب في العصر الوسيط في حقل الديمغرافيا التاريخية التي يمكن ترجمتها، إن توفرت، إلى معطيات رقمية تتعلق بتاريخ السكان في بلاد المغرب الوسيط. فـتاريخه ليس سجلاً للزيجات والولادات والوفيات في عصره، وهو لا يخرج بذلك عن قاعدة الاستغرافيا الإسلامية عامة، وخصوصاً أمهات كتب التاريخ، رغم ذكره بعض تواريخ الميلاد والوفيات أو بعض الزيجات. إلا أنه يقدم التصورات العامة والجوانب التنظيرية ذات الصلة بهذا الموضوع، والتي قد تفيد المهتم بهذا المجال المعرفي، وذلك في علاقة بموضوع العمران البشري الذي هو موضوع للتاريخ وأداة لتمحيص الأخبار والارتقاء بصناعة المؤرخ. وتتصل هذه التنظيرات ببعض المفاهيم الأساسية في تاريخ بلاد المغرب الوسيط، كالقبيلة والنسب والجيل والعصبية أو الطاعون الجارف، أو ببعض المبادئ العامة، كارتفاع الوفيات في نهاية عمر الدولة بسبب الكوارث الديمغرافية، كالمجاعات والحروب والأوبئة، أو المقارنة بين عمر الكائن البشري وعمر الدولة، وأهمية القوة العددية في انتصار القبائل والعصبيات ومنعتها، أو الحركات السكانية المرافقة لتطور العصبية/الدولة من النشوء إلى الاستقرار، ثم الفناء، والمرتبطة بعلاقات البدو والحضر، وبظاهرة التمدين في المغرب الوسيط، كما يتتبع التوزيع المجالي للقبائل والعصبيات البربرية والعربية، ويقدم معلومات مهمة تفيد في إعادة رسم الخريطة البشرية لبلاد المغرب الوسيط.إن أهم فكرة يستنتجها الباحث من الإشارات الديمغرافية، الوصفية منها والإحصائية، التي ترد متفرقة عبر مكونات تاريخ ابن خلدون، هي أن بلاد المغرب الوسيط كانت في عصر ابن خلدون تعرف فراغاً ديمغرافياً حقيقياً، تجلى في ضعف التمدين، وقلة السكان، وتراجع العمران، نتيجة عوامل متعددة، كالطاعون الأسود والاضطرابات والفتن المرافقة لهرم دوله وإماراته، وبلوغها الغاية من مداها، وبداية انهياره على المستوى الحضاري، وهي فكرة تحتاج إلى مزيد من البحث لإثباتها وتوضيحها. ولعل هذا الفراغ الديمغرافي هو الذي أوحى لابن خلدون بأن المغرب في عصره كان يمر بنشأة جديدة مستأنفة شكلت ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ أهم الدوافع النفسية التي كانت وراء تأليف تاريخه ¨كتب ذات صلة:ابن خلدون : سيرة فكريةفكر ابن خلدون، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلاميالفكر الواقعي عند ابن خلدون: تفسير تحليلي وجدلي لفكر ابن خلدون في بنيته ومعناه

Privacy Preference Center